سورة التوبة - تفسير تفسير ابن عطية

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (التوبة)


        


بعد {كيف} في هذه الآية فعل مقدر ولا بد، يدل عليه ما تقدم، فيحسن أن يقدر كيف يكون لهم عهد ونحوه قول الشاعر: [الطويل]
وخيرتماني إنما الموت في القرى *** فكيف وهاتا هضبة وكثيب
وفي {كيف} هنا تأكيد للاستبعاد الذي في الأولى، و{لا يرقبوا} معناه لا يراعوا ولا يحافظوا وأصل الارتقاب بالبصر، ومنه الرقيب في الميسر وغيره، ثم قيل لكل من حافظ على شيء وراعاه راقبه وارتقبه، وقرأ جمهور الناس {إلاً} وقرأ عكرمة مولى ابن عباس بياء بعد الهمزة خفيفة اللام إيلاً وقرأت فرقة ألاً بفتح الهمزة، فأما من قرأ إلاً فيجوز أن يراد به الله عز وجل قاله مجاهد وأبو مجلز، وهو اسمه بالسريانية، ومن ذلك قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه حين سمع كلام مسيلمة فقال هذا كلام لم يخرج من إل، ويجوز أن يراد به العهد والعرب تقول للعهد والخلق والجوار ونحو هذه المعاني إلاً، ومنه قول أبي جهل: [الطويل]
لإل علينا واجب لا نضيعه *** متين فواه غير منتكث الحبل
ويجوز أن يراد به القرابة، فإن القرابة في لغة العرب يقال له إل، ومنه قول ابن مقبل: [الرمل]
أفسد الناس خلوفٌ خلّفوا *** قطعوا الإل وأعراق الرحم
أنشده أبو عبيدة على القرابة، وظاهره أنه في العهود، ومنه قول حسان [الوافر]
لعمرك أن إلَّك في قريش *** كإل السقب من رال النعام
وأما من قرأ {ألاً} بفتح الهمزة فهو مصدر من فعل للإل الذي هو العهد، ومن قرأ {إيلاً} فيجوز أن يراد به الله عز وجل، فإنه يقال أل وأيل، وفي البخاري قال جبر، وميك، وسراف: عبد بالسريانية، وأيل الله عز وجل، ويجوز أن يريد {إلاً} المتقدم فأبدل من أحد المثلين ياء كما فعلوا ذلك في قولهم أما وأيما، ومنه قول سعد بن قرط يهجو أمه: [البسيط]
يا ليت أمنا شالت نعامتها *** أيما إلى جنة أيما إلى نار
ومنه قول عمر بن أبي ربيعة: [الطويل]
رأت رجلاً أيما إذا الشمس عارضت *** فيضحي وأما بالعشي فيخصر
وقال آخر: [الرجز]
لا تفسدوا آبا لكم *** أيما لنا أيما لكم
قال أبو الفتح ويجوز أن يكون مأخوذاً من آل يؤول إذا ساس.
قال القاضي أبو محمد: كما قال عمر بن الخطاب: قد ألنا وإيل علينا فكان المعنى على هذا لا يرقبون فيكم سياسة ولا مداراة ولا ذمة، وقلبت الواو ياء لسكونها والكسرة قبلها، والذمة أيضاً بمعنى المتات والحلف والجوار، ونحوه قول الأصمعي الذمة كل ما يجب أن يحفظ ويحمى، ومن رأى الإل أنه العهد جعلها لفظتين مختلفتين لمعنى واحد أو متقارب، ومن رأى الإل لغير ذلك فهما لفظان لمعنيين، {وتأبى قلوبهم} معناه تأبى أن تذعن لما يقولونه بالألسنة، وأبى يأبى شاذ لا يحفظ فعل يفعل بفتح العين في الماضي والمستقبل، وقد حكي ركن يركن، وقوله {وأكثرهم} يريد به الكل أو يريد استثناء من قضى له بالإيمان كل ذلك محتمل، وقوله تعالى: {اشتروا بآيات الله} الآية اللازم من ألفاظ هذه الآية أن هذه الطائفة الكافرة الموصوفة بما تقدم لما تركت آيات الله ودينه وآثرت الكفر وحالها في بلادها كل ذلك كالشراء والبيع، لما كان ترك قد مكنوا منه وأخذ لما يمكن نبذه، وهذه نزعة مالك رحمه الله في منع اختيار المشتري فيما تختلف آحاد جنسه ولا يجوز التفاضل فيه، وقد تقدم ذكر ذلك في سورة البقرة وقوله {فصدوا عن سبيله} يريد صدوا أنفسهم وغيرهم، ثم حكم عليهم بأن عملهم سيء، و{ساء} في هذه الآية إذ لم يذكر مفعولها يحتمل أن تكون مضمنة كبئس، فأما إذا قلت ساءني فعل زيد فليس تضمين بوجه، وإن قدرت في هذه الآية مفعولاً زال التضمين، وروي أن أبا سفيان بن حرب جمع بعض العرب على طعام وندبهم إلى وجه من وجوه النقض فأجابوا إلى ذلك فنزلت الآية، وقال بعض الناس: هذه في اليهود.
قال القاضي أبو محمد: وهذا القول وإن كانت ألفاظ هذه الآية تقتضيه فما قبلها وما بعدها يرده ويتبرأ منه، ويختل أسلوب القول به، وقوله تعالى: {لا يرقبون} الآية، وصف لهذه الطائفة المشترية يضعف ما ذهب إليه من قال إن قوله {اشتروا بآيات الله} هو في اليهود، وقوله تعالى: {في مؤمن} إعلام بأن عداوتهم إنما هي بحسب الإيمان فقط، وقوله أولاً {فيكم} كان يحتمل أن يظن ظان أن ذلك للإحن التي وقعت فزال هذا الاحتمال بقوله {في مؤمن}، ثم وصفهم تعالى بالاعتداء والبداءة بالنقض للعهود والتعمق في الباطل.


{تابوا} رجعوا عن حالهم، والتوبة منهم تتضمن، ثم قرن تعالى بإيمانهم إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، قال ابن عباس: حرمت هذه الآية دماء أهل القبلة، وقال ابن زيد: قرن الله الصلاة بالزكاة ولم يرض بإحداهما دون الأخرى.
قال القاضي أبو محمد: وعلى هذا مر أبو بكر رضي الله عنه وقت الردة، والأخوة في الدين هي أخوة الإسلام وجمع الأخ منها إخوان وجمعه من النسب إخوة قاله بعض اللغويين، وقد قيل إن الأخ من النسب يجمع على إخوان أيضاً وذلك ظاهر من قوله تعالى {ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم أو بيوت أمهاتكم أو بيوت إخوانكم أو بيوت أخواتكم} [النور: 61] ويبين ذلك قوله تعالى في آخر الآية {أو صديقكم} [النور: 61] وكذلك قوله في هذه السورة {قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم} [التوبة: 24]، فأما الأخ من التوادّ ففي كتاب الله {إنما المؤمنون أخوة} [الحجرات: 10]، وقال أبو هريرة في البخاري كان إخوتي من المهاجرين يشغلهم صفق بالأسواق فيصح من هذا كله أن الأخ يجمع إخوة وإخواناً سواء كان من نسب أو مودة، وتفصيل الآية بيانها وإيضاحها، وقوله تعالى: {وإن نكثوا أيمانهم} الآية؛ النكث النقض وأصله في كل ما قبل ثم حل، فهي في الأيمان والعهود مستعارة، وقوله {وطعنوا في دينكم} أي بالإستنقاص والحرب وغير ذلك مما يفعله المشرك، وهذه استعارة ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم حين أمر أسامة: إن تطعنوا فقد طعنتم في إمارة أبيه من قبل، الحديث.
قال القاضي أبو محمد: ويليق هنا ذكر شيء من طعن الذمي في الدين فالمشهور من مذهب مالك رحمه أنه: إذا فعل شيئاً من ذلك مثل تكذيب الشريعة وسب النبي صلى الله عليه وسلم ونحوه قتل، وقيل إذا كفر وأعلن بما هو معهود من معتقده وكفره أدِّب على الإعلان وترك، وإذا كفر بما ليس من معهود كفره كالسب ونحوه قتل، وقال أبو حنيفة في هذا: إنه يستتاب، واختلف إذا سب الذمي النبي صلى الله عليه وسلم ثم أسلم تقية القتل فالمشهور من المذهب أن يترك، وقد قال صلى الله عليه وسلم «الإسلام يجب ما قبله» وفي العتبية أنه يقتل ولا يكون أحسن حالأ من المسلم، وقوله تعالى {فقاتلوا أئمة الكفر} أي رؤوسهم وأعيانهم الذين يقودون الناس إليه، وقال قتادة: المراد بهذا أبو جهل بن هشام وعتبة بن ربيعة وغيرهما.
قال القاضي أبو محمد: وهذا إن لم يتأول أنه ذكرهم على جهة المثال ضعيف لأن الآية نزلت بعد بدر بكثير، وروي عن حذيفة أنه قال: لم يجئ هؤلاء بعد.
قال القاضي أبو محمد: يريد أن ينقرضوا فهم يحيون أبداً ويقتلون، وأصوب ما في هذا أن يقال إنه لا يعنى بها معين، وإنما وقع الأمر بقتال أئمة الناكثين بالعهود من الكفرة إلى يوم القيامة دون تعيين، واقتضت حال الكفار العرب ومحاربي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تكون الإشارة إليهم أولاً بقوله {أئمة الكفر} وهم حصلوا حينئذ تحت اللفظة إذ الذي يتولى قتال النبي والدفع في صدر شريعته هو إمام كل من يكفر بذلك الشرع إلى يوم القيامة، ثم تأتي في كل جيل من الكفار أئمة خاصة بجيل جيل، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو {أيمة} بهمزة واحدة وبعدها ياء مكسورة، وقد روي عن نافع مد الهمزة، وروى عنه ابن أبي أويس {أأمة} بهمزتين وأصلها {أأمة} وزنها أفعلة جمع إمام كعماد وأعمدة، نقلت حركة الميم إلى الهمزة التي هي فاء الفعل وأدغمت الميم الأخرى وقلبت الهمزة ياء لانكسارها ولاجتماع همزتين من كلمة واحدة، وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي {أأمة} والتعليل واحد، إلا أنهم لم يقلبوا الهمزة ياء، وقرأ المسيبي عن نافع {آيمة} بهمزة ممدودة، وقرأ هشام عن أبي عامر بمدة بين الهمزتين، وقرأ الناس الجم الغفير لا {أيمان لهم} على جمع يمين، وليس المراد نفي الأيمان جملة، وإنما المعنى لا أيمان لهم يوفى بها ويبر، وهذا المعنى يشبه الآية، وقرأ الحسن وعطاء وابن عامر وحده من السبعة {لا إيمان لهم}، وهذا يحتمل وجهين أحدهما لا تصديق، قال أبو علي وهذا غير قوي لأنه تكرير وذلك أنه وصف أئمة الكفر بأنهم {لا إيمان لهم} فالوجه في كسر الألف أنه مصدر من آمنه إيماناً، ومنه قوله تعالى: {آمنهم من خوف} [قريش: 4] فالمعنى أنهم لا يؤمنون كما يؤمن أهل الذمة الكتابيون، إذ المشركون لم يكن لهم إلا الإسلام أو السيف، قال أبو حاتم فسر الحسن قراءته لا إسلام لهم.
قال القاضي أبو محمد: والتكرير الذي فر أبو علي منه متجه لأنه بيان المهم الذي يوجب قتلهم لا إسلام لهم.


قوله {ألا تقاتلون} عرض وتحضيض، وقوله {وهموا بإخراج الرسول وهم بدؤوكم أول مرة}، قال الحسن بن أبي الحسن: المراد من المدينة، وهذا مستقيم كغزوة أحد والأحزاب وغيرهما، وقال السدي: المراد من مكة فهذا على أن يكون المعنى هموا وفعلوا، أو على أن يقال هموا بإخراجه بأيديهم فلم يصلوا إلى ذلك بل خرج بأمر الله عز وجل، وهذا يجري مع إنكار النبي صلى الله عليه وسلم على أبي سفيان بن الحارث قوله: [الطويل]
وردني إلى الله من *** طردته كل مطرد
ولا ينسب الإخراج إليهم إلا إذا كان الكلام في طريق تذنيبهم كما قال تعالى: {وإخراج أهله منه أكبر عند الله} [البقرة: 127] وقوله: {من قريتك التي أخرجتك} [محمد: 13] والأول هو على أن ما فعلوا به من أسباب الإخراج هو الإخراج، وقوله {أول مرة} قيل يراد أفعالهم بمكة بالنبي صلى الله عليه وسلم وبالمؤمنين، وقال مجاهد: يراد به ما بدأت به قريش من معونة بني بكر حلفائهم على خزاعة حلفاء رسول الله عليه وسلم، فكان هذا بدء النقض، وقال الطبري: يعني فعلهم يوم بدر، وقوله {أتخشونهم} استفهام على معنة التقرير والتوبيخ، وقوله {فالله} مرتفع بالابتداء و{أحق} خبره، {أن تخشوه} بدل من اسم الله بدل اشتمال أو في موضع نصب على إسقاط خافض تقديره بأن تخشوه، ويجوز أن يكون {الله} ابتداء و{أحق} ابتداء ثان و{أن تخشوه} خبر الثاني والجملة خبر الأول، وقوله {إن كنتم مؤمنين} كما تقول افعل كذا إن كنت رجلاً أي رجلاً كاملاً، فهذا معناه إن كنتم مؤمنين كاملي الإيمان، لأن إيمانهم قد كان استقر، وقوله {قاتلوهم يعذبهم الله} الآية، قررت الآيات قبلها أفعال الكفرة ثم حضض على القتال مقترناً بذنوبهم لتنبعث الحمية مع ذلك، ثم جزم الأمر بقتالهم في هذه الآية مقترناً بوعد وكيد يتضمن النصرة عليهم والظفر بهم، وقوله {يعذبهم} معناه بالقتل والأسر وذلك كله عذاب، {ويخزهم} معناه يذلهم على ذنوبهم يقال خزي الرجل خزياً إذا ذل من حيث وقع في عار وأخزاه غيره وخزي خزاية إذا استحيا، وأما قوله {ويشف صدور قوم مؤمنين} فإن الكلام يحتمل أن يريد جماعة المؤمنين لأن كل ما يهد من الكفر هو شفاء من هم صدور المؤمنين، ويحتمل أن يريد تخصيص قوم من المؤمنين، وروي أنهم خزاعة قاله مجاهد والسدي ووجه تخصيصهم أنهم الذين نقض فيهم العهد ونالتهم الحرب وكان يومئذ في خزاعة مؤمنون كثير، ويقتضي ذلك قول الخزاعي عن المستنصر بالنبي صى الله علي وسلم: [الرجز]
ثُمّتَ أسلمنا فلم تنزع يدا ***
وفي آخر الرجز:
وقتلونا ركّعاً وسجّداً ***
وقرأ جمهور الناس {ويُذهب غيظ قلوبهم} على إسناد الفعل إلى الله عز وجل، وقرأت فرقة {ويَذهب غيظ قلوبهم} على إسناد الفعل إلى الغيظ، وقرأ جمهور الناس {يتوبُ} بالرفع على القطع مما قبله، والمعنى أن الآية استأنفت الخبر بأنه قد يتوب على بعض هؤلاء الكفرة الذين أمر بقتالهم، قال أبو الفتح: وهذا أمر موجود سواء قوتلوا أو لم يقاتلوا، فلا وجه لإدخال التوبة في جواب الشرط الذي في {قاتلوهم} على قراءة النصب، وإنما الوجه الرفع على الاستئناف والقطع، وقرأ الأعرج وابن أبي إسحاق وعيسى الثقفي وعمرو بن عبيد وأبو عمرو فيما روي عنه {ويتوبَ} بالنصب على تقدير وأن يتوب، ويتوجه ذلك عندي إذا ذهبت إلى أن التوبة إنما يراد بها هنا أن قتل الكافرين والجهاد في سبيل الله هو توبة لكم أيها المؤمنون وكمال لإيمانكم، فتدخل التوبة على هذا في شرط القتال، و{عليم حكيم} صفتان نسبتهما إلى الآية واضحة.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8